*
هذا هو العامل الكبير الذي أفضى إلى تحريف الحقائق وتعميم المغالطات حول العديد من الوقائع والمجريات، وحول مساهمات الأمازيغ ووجودهم التاريخي وتنظيماتهم السياسية والاجتماعية، وأدوارهم وحضورهم في سيرورة الأحداث والتحولات التي عرفتها شمال إفريقيا على امتداد أكثر من ثلاثة وثلاثين قرنا. ونتيجة لهذا الغياب، ولعدم مساهمة الأمازيع في تسجيل التاريخ الذي صنعوه وعاشوه، أو ربما ضياع كتاباتهم بعد إتلاف خزانة قرطاج، فقد بقيت شهادة الماضي محصورة في ما وصل من مكتوب الوافدين أو الأجانب، الذين احتكروا رواية الوقائع بالشكل الذي لا يخفى تحيزه بما يعلي وجهة نظرهم، ويعظم شأنهم ويخدم مصالحهم.
وقد كان أولائك "الأهل" الشهود هم الكتبة من المصريين القدماء، ومن اليونان والفينيقيين والرومان والوندال والبيزنطيين والعرب والفرنسيين والأسبان، أما المشهود على أمرهم، فلو لم يزل بعضهم أو جلهم يحمل ورقة تعريفه، لأيقنا أنهم اندثروا منذ زمان، وصاروا جميعا خبر كان. ورقة تعريف الأمازيغي في وقتنا الحاضر، هي قدرته على الإفصاح بلغة "الزاي"، أو تعاطفه معها، أو عدم تنكره للأجداد.
وسواء تعلق الأمر بالمعطيات التاريخية الواردة في كتابات الإخباريين والكتبة منذ التاريخ القديم، أو تعلق الأمر بالتاريخ الرسمي الذي تألف على امتداد سيرورة تأسيس وسقوط الدول والسلالات التي تعاقبت على أرض المغرب، فإن التاريخ الذي كتبه المنتصرون ومؤرخو السلطة وكتبة الحكام ظل منحصرا في أنشطة هذه الفئات وأنظمتها السياسية والأحداث التي تهمها، ولم يهتم بالوقائع والقضايا التي ميزت عمق التاريخ الاجتماعي أو التي جرت على هامش نفوذ السلطات المركزية وتحركات أمرائها وقوادها. فالتاريخ، كما كتب علي صدقي أزيكو، لا ينحصر في الأنشطة الرسمية التي ليست في حقيقة الأمر إلا انعكاسا باهتا لتاريخ تجري أحداثه خارج الميادين المفضلة لدى الإخباريين.
إقصاء التاريخ القديم
ما عدا درس "سكان المغرب الأولون" الذي تلقاه التلاميذ المغاربة في المستوى الثاني ابتدائي، والذي سنوضح بعض مغالطاته فيما بعد، لم تكن مقررات التاريخ المدرسي تقدم من التاريخ القديم سوى ما يرتبط بالمؤثرات الخارجية والشعوب الوافدة على أرض المغرب، خاصة الفنينقيين والوندال والبيزنطيين والرومان، لتنتقل إلى تاريخ شبه الجزيرة العربية، ثم إلى "بداية الدولة المغربية" التي تمت، حسب مضمون تلك الملخصات التعليمية، مع مجيء إدريس الأول الذي أسس دولة أوربة التي تسمى بالأدارسة في المصطلح الرسمي، وبعد اغتياله تولى ابنه إدريس الثاني الحكم عند بلوغه 18 سنة، وبنا فاس.
ورغم أن التاريخ القديم يمثل أزيد من 90% من تاريخ الشعوب ومرحلة أساسية من مسيرتها الحضارية، فقد تم تجاهله وإقصاؤه، وفي أحسن الأحوال اختزاله والاكتفاء بالإشارة إليه في رواية التاريخ الرسمي، ولم يفسح المجال لاستحضار الممالك الأمازيغية مثلا- حضورا باهتا - في الدرس التاريخي إلا مؤخرا، رغم الأهمية السياسية والتاريخية لهذه الدول التي امتد نفوذها على مدى شمال إفريقيا من القرن الرابع ق.م إلى حدود منتصف القرن الأول الميلادي، والتي عرفت أوج ازدهارها مع الملك يوكرتن ويوبا الأول وبوكوس الأول وماسينيسا الذي تحدثت المصادر التاريخية عن تمكنه من توسيع مملكته وهزم قرطاج، وتنظيم دولة على النموذج الإغريقي، حيث طور آليات الحكم السياسي والتنظيم الاقتصادي، وطور الزراعة وحقق نهضة ثقافية بتشجيع الأدب والفن والاستفادة من الفكر اليوناني، مما جعل من عاصمة مملكته مدينة راقية من الجانبين المادي والثقافي في مستوى ازدهار مدينة أثينا الأغريقية.
فبعد سقوط قرطاج سنة 146 ق.م، كما تؤكد الشهادات التاريخية، بدأت مرحلة جديدة من الاستعمار دامت أكثر من ستة قرون قاوم فيها الأمازيغ أكبر إمبراطورية استعمارية عرفها حوض البحر المتوسط في العصر القديم، وهي الرومان، بكثير من الشجاعة والصبر والثبات.
فكل هذه الأحداث والأزمنة المضيئة من تاريخ المغرب همشت في التاريخ الرسمي، والمدرسي بالخصوص، وتم التركيز والإعلاء من شأن المؤثرات الخارجية والشعوب الوافدة على المنطقة المغاربية، كالفينيقيين والوندال...، بشكل يعكس خيارا معرفيا وتاريخانيا واضحا، ينتقص من تاريخ ودور العنصر المحلي في صناعة الأحداث والتحولات التي عرفها مجاله، والتعتيم على مساهمته في حضارات الحوض المتوسط. بل إن هذا التناول الانتقائي للتاريخ، يذهب إلى أن المغرب دخل التاريخ على يد الفينيقيين، رغم أن مرحلة وجودهم وتأثيرهم لم تكن سوى مرحلة للتعامل التجاري، لم تعرف استقرارا ولا يمكن أن تشكل عصرا أو بداية للتاريخ. ويتجاهل التاريخ الرسمي كون الأمازيغ كانت لهم علاقات مع حضارات أخرى من قبل، وكانوا يملكون أبجديتهم تيفيناغ التي أكدت الدراسات الأركيولوجية عراقتها أكثر من الفينيقية، إضافة إلى أن الأمازيغ تمكنوا من حكم مصر على يد الملك شيشونق الأول منذ سنة 929 ق.م، ولأكثر من قرنين من الزمن، مما يؤكد دخولهم عصر التاريخ قبل نزول الفنيقيين على سواحل بلادهم.
أليست هذه الأحداث والأزمنة المجيدة من تاريخ المغرب القديم مثار افتخار واعتزاز، من شأنه أن يعزز معرفة المغاربة بتاريخهم وسيرورة بناء حضارتهم، ويسمو بالذاكرة والوجدان الفردي والجماعي والانتماء الحضاري الوطني؟
دخول الإسلام وأسطورة "الفتح السندبادي"
لم يكن دخول العرب إلى المغرب دخولا سندباديا عبر رحلة بساطية، كما تحاول روايات التاريخ الرسمي والمدرسي تقديم ذلك. بل كان هذا الدخول، وباستحضار غايته المعلنة والفعلية، دخولا عنيفا، اتسم بالمواجهة والمقاومة وطول المدة التي استغرقها والتي وصلت إلى حوالي 68 سنة. ورغم أن هذه الأحداث تمت في أوج قوة الأمويين، فقد كانت المقاومة الأمازيغية قوية بسبب وجود تجمعات أمازيغية قوية، تلك التي تزعمها كوسيلا أمير أوربة، والتي قادتها أميرة الأوراس تيهيا، وبسبب سلوك خلفاء وقواد الأمويين المتعصبين لعرقهم والمحتقرين لأهالي البلاد التي غزوها، حيث تمادوا في جمع الغنائم والسبايا وإرسالها إلى الشرق لإرضاء ولاة الأمر، مما أثار مواجهات عنيفة، وزاد من مقاومة الإمارات الأمازيغية للجيوش العربية.
يقدم التاريخ الرسمي دخول الأمويين وكأنه مقرون بقوة ميتافيزيقية استرضت الإنسان والأرض، وامتلكتهم دون عنف ولا مقاومة، مقصيا من روايته كل الأحداث والمواجهات التي شهدتها هذه المرحلة الشائكة من تاريخ المغرب. بل إن الرواية الرسمية لم تكتف بالتعتيم عن مظاهر ووقائع العنف والغزو والاستبداد الأموي التي واجهها الامازيغ بقوة، بل حاولت إضفاء طابع أسطوري على عملية دخول الأمويين، وإقرانها بالفتح الإسلامي فقط، بالشكل الذي يحجب حقيقة صراع السلطة وإخضاع المغرب لنفوذ ولاة وقواد المشرق. فنعلم مع عبد الله العروي بأن مسألة الفتح كانت منذ البداية سياسية أكثر منها دينية: أي كيف سيحكم العرب المغرب وليس كيف سيعبد المغاربة خالقهم... ولا شك أن إسلام "البربر" في آخر المطاف لم يعد أن يكون اعترافا بسيادة الخليفة.
وقد ارتبطت أسطرة الأحداث بتعظيم شخصية القائد، وكان عقبة بن نافع هو الاسم الذي حظي بالنصيب الأوفر من ذلك، ككبير القواد الفاتحين، رغم أن تأكيد حملته على المغرب الأقصى يبقى دون سند، كما ذهب إلى ذلك عبد الله العروي الذي أكد أن حملة عقبة لم تتجاوز نواحي تلمسان ووهران. وقد يكون الهدف من هذا التقديس الذي أحيطت به شخصية عقبة في التاريخ الرسمي، والإشادة بأعماله الحقيقية وغير الحقيقية، هو تعظيمه والتغطية على الوقائع الميدانية كحملة الاسترقاق الجماعي التي قادتها جيوش الأمويين.
إضافة إلى الصورة التاريخية الرسمية التي اقترن بها اسم عقبة، يمكن أيضا إثارة اسم موسى بن نصير وطارق بن زياد. فباستثناء الخطبة الشهيرة التي اقترن بها اسم هذا الأخير أثناء فتح الأندلس، والتي تتضارب الآراء حولها خاصة أنه القائد الأمازيغي الذي تفيد بعض المصادر بأنه لم يكن يتقن العربية بتلك الدرجة، فإن مصير طارق ومكان تواجد قبره يبقى الحلقة المفقودة من هذه الرواية التي لا يخفى بعدها وارتباطها الوطيد بأهداف وخفايا الخلافة الأموية وصراعاتها الداخلية.
وامتدادا لنفس الخيار الإيديولوجي، تسعى الرواية الرسمية في تناولها لمختلف الأحداث التي ميزت تعاقب الدول والصراعات والأحداث، إلى الإيحاء بنوع من الاندماج المجتمعي والانتصار العارم والدائم للسطلة المركزية، والتقليل من شأن الوقائع والردود التي عرفتها المناطق المستعصية، ومنها حقيقة الصراع الكبير الذي طبع علاقة الدول والأنظمة المركزية والجماعات الوافدة مع سكان المناطق الممتدة على أنحاء البلاد، وأنماط تنظيمهم السياسي المحلي ووجودهم الاجتماعي.
فهذا التاريخ الذي يحدوه "مكر العقل الشمولي"، وبغضه الطرف عن وقائع الأزمة والصراع التي طبعت علاقة المراكز الحاكمة بالهوامش المقاومة أو المستعصية، فهو يسعى إلى تقديم صورة البلاد المندمجة والسلطة القوية التي تملك الحق وشرعية السيطرة والتنظيم وامتلاك الأرض والإنسان، وإخضاع الجميع لنفوذها الإداري والقضائي. ومن هذا المنظور، يسقط التاريخ الرسمي من حسابه ما يسميه صدقي أزايكو باللازمة العميقة المحركة لتاريخ المغرب وشمال إفريقيا منذ أن استقر بهما الإسلام، وهي تدافع الأحداث والوقائع، وتضارب الآراء والمواقف، وتصارع الجماعات والدول، وتنافس اللغات والثقافات والمؤسسات المختلفة.
هذا هو العامل الكبير الذي أفضى إلى تحريف الحقائق وتعميم المغالطات حول العديد من الوقائع والمجريات، وحول مساهمات الأمازيغ ووجودهم التاريخي وتنظيماتهم السياسية والاجتماعية، وأدوارهم وحضورهم في سيرورة الأحداث والتحولات التي عرفتها شمال إفريقيا على امتداد أكثر من ثلاثة وثلاثين قرنا. ونتيجة لهذا الغياب، ولعدم مساهمة الأمازيع في تسجيل التاريخ الذي صنعوه وعاشوه، أو ربما ضياع كتاباتهم بعد إتلاف خزانة قرطاج، فقد بقيت شهادة الماضي محصورة في ما وصل من مكتوب الوافدين أو الأجانب، الذين احتكروا رواية الوقائع بالشكل الذي لا يخفى تحيزه بما يعلي وجهة نظرهم، ويعظم شأنهم ويخدم مصالحهم.
وقد كان أولائك "الأهل" الشهود هم الكتبة من المصريين القدماء، ومن اليونان والفينيقيين والرومان والوندال والبيزنطيين والعرب والفرنسيين والأسبان، أما المشهود على أمرهم، فلو لم يزل بعضهم أو جلهم يحمل ورقة تعريفه، لأيقنا أنهم اندثروا منذ زمان، وصاروا جميعا خبر كان. ورقة تعريف الأمازيغي في وقتنا الحاضر، هي قدرته على الإفصاح بلغة "الزاي"، أو تعاطفه معها، أو عدم تنكره للأجداد.
وسواء تعلق الأمر بالمعطيات التاريخية الواردة في كتابات الإخباريين والكتبة منذ التاريخ القديم، أو تعلق الأمر بالتاريخ الرسمي الذي تألف على امتداد سيرورة تأسيس وسقوط الدول والسلالات التي تعاقبت على أرض المغرب، فإن التاريخ الذي كتبه المنتصرون ومؤرخو السلطة وكتبة الحكام ظل منحصرا في أنشطة هذه الفئات وأنظمتها السياسية والأحداث التي تهمها، ولم يهتم بالوقائع والقضايا التي ميزت عمق التاريخ الاجتماعي أو التي جرت على هامش نفوذ السلطات المركزية وتحركات أمرائها وقوادها. فالتاريخ، كما كتب علي صدقي أزيكو، لا ينحصر في الأنشطة الرسمية التي ليست في حقيقة الأمر إلا انعكاسا باهتا لتاريخ تجري أحداثه خارج الميادين المفضلة لدى الإخباريين.
إقصاء التاريخ القديم
ما عدا درس "سكان المغرب الأولون" الذي تلقاه التلاميذ المغاربة في المستوى الثاني ابتدائي، والذي سنوضح بعض مغالطاته فيما بعد، لم تكن مقررات التاريخ المدرسي تقدم من التاريخ القديم سوى ما يرتبط بالمؤثرات الخارجية والشعوب الوافدة على أرض المغرب، خاصة الفنينقيين والوندال والبيزنطيين والرومان، لتنتقل إلى تاريخ شبه الجزيرة العربية، ثم إلى "بداية الدولة المغربية" التي تمت، حسب مضمون تلك الملخصات التعليمية، مع مجيء إدريس الأول الذي أسس دولة أوربة التي تسمى بالأدارسة في المصطلح الرسمي، وبعد اغتياله تولى ابنه إدريس الثاني الحكم عند بلوغه 18 سنة، وبنا فاس.
ورغم أن التاريخ القديم يمثل أزيد من 90% من تاريخ الشعوب ومرحلة أساسية من مسيرتها الحضارية، فقد تم تجاهله وإقصاؤه، وفي أحسن الأحوال اختزاله والاكتفاء بالإشارة إليه في رواية التاريخ الرسمي، ولم يفسح المجال لاستحضار الممالك الأمازيغية مثلا- حضورا باهتا - في الدرس التاريخي إلا مؤخرا، رغم الأهمية السياسية والتاريخية لهذه الدول التي امتد نفوذها على مدى شمال إفريقيا من القرن الرابع ق.م إلى حدود منتصف القرن الأول الميلادي، والتي عرفت أوج ازدهارها مع الملك يوكرتن ويوبا الأول وبوكوس الأول وماسينيسا الذي تحدثت المصادر التاريخية عن تمكنه من توسيع مملكته وهزم قرطاج، وتنظيم دولة على النموذج الإغريقي، حيث طور آليات الحكم السياسي والتنظيم الاقتصادي، وطور الزراعة وحقق نهضة ثقافية بتشجيع الأدب والفن والاستفادة من الفكر اليوناني، مما جعل من عاصمة مملكته مدينة راقية من الجانبين المادي والثقافي في مستوى ازدهار مدينة أثينا الأغريقية.
فبعد سقوط قرطاج سنة 146 ق.م، كما تؤكد الشهادات التاريخية، بدأت مرحلة جديدة من الاستعمار دامت أكثر من ستة قرون قاوم فيها الأمازيغ أكبر إمبراطورية استعمارية عرفها حوض البحر المتوسط في العصر القديم، وهي الرومان، بكثير من الشجاعة والصبر والثبات.
فكل هذه الأحداث والأزمنة المضيئة من تاريخ المغرب همشت في التاريخ الرسمي، والمدرسي بالخصوص، وتم التركيز والإعلاء من شأن المؤثرات الخارجية والشعوب الوافدة على المنطقة المغاربية، كالفينيقيين والوندال...، بشكل يعكس خيارا معرفيا وتاريخانيا واضحا، ينتقص من تاريخ ودور العنصر المحلي في صناعة الأحداث والتحولات التي عرفها مجاله، والتعتيم على مساهمته في حضارات الحوض المتوسط. بل إن هذا التناول الانتقائي للتاريخ، يذهب إلى أن المغرب دخل التاريخ على يد الفينيقيين، رغم أن مرحلة وجودهم وتأثيرهم لم تكن سوى مرحلة للتعامل التجاري، لم تعرف استقرارا ولا يمكن أن تشكل عصرا أو بداية للتاريخ. ويتجاهل التاريخ الرسمي كون الأمازيغ كانت لهم علاقات مع حضارات أخرى من قبل، وكانوا يملكون أبجديتهم تيفيناغ التي أكدت الدراسات الأركيولوجية عراقتها أكثر من الفينيقية، إضافة إلى أن الأمازيغ تمكنوا من حكم مصر على يد الملك شيشونق الأول منذ سنة 929 ق.م، ولأكثر من قرنين من الزمن، مما يؤكد دخولهم عصر التاريخ قبل نزول الفنيقيين على سواحل بلادهم.
أليست هذه الأحداث والأزمنة المجيدة من تاريخ المغرب القديم مثار افتخار واعتزاز، من شأنه أن يعزز معرفة المغاربة بتاريخهم وسيرورة بناء حضارتهم، ويسمو بالذاكرة والوجدان الفردي والجماعي والانتماء الحضاري الوطني؟
دخول الإسلام وأسطورة "الفتح السندبادي"
لم يكن دخول العرب إلى المغرب دخولا سندباديا عبر رحلة بساطية، كما تحاول روايات التاريخ الرسمي والمدرسي تقديم ذلك. بل كان هذا الدخول، وباستحضار غايته المعلنة والفعلية، دخولا عنيفا، اتسم بالمواجهة والمقاومة وطول المدة التي استغرقها والتي وصلت إلى حوالي 68 سنة. ورغم أن هذه الأحداث تمت في أوج قوة الأمويين، فقد كانت المقاومة الأمازيغية قوية بسبب وجود تجمعات أمازيغية قوية، تلك التي تزعمها كوسيلا أمير أوربة، والتي قادتها أميرة الأوراس تيهيا، وبسبب سلوك خلفاء وقواد الأمويين المتعصبين لعرقهم والمحتقرين لأهالي البلاد التي غزوها، حيث تمادوا في جمع الغنائم والسبايا وإرسالها إلى الشرق لإرضاء ولاة الأمر، مما أثار مواجهات عنيفة، وزاد من مقاومة الإمارات الأمازيغية للجيوش العربية.
يقدم التاريخ الرسمي دخول الأمويين وكأنه مقرون بقوة ميتافيزيقية استرضت الإنسان والأرض، وامتلكتهم دون عنف ولا مقاومة، مقصيا من روايته كل الأحداث والمواجهات التي شهدتها هذه المرحلة الشائكة من تاريخ المغرب. بل إن الرواية الرسمية لم تكتف بالتعتيم عن مظاهر ووقائع العنف والغزو والاستبداد الأموي التي واجهها الامازيغ بقوة، بل حاولت إضفاء طابع أسطوري على عملية دخول الأمويين، وإقرانها بالفتح الإسلامي فقط، بالشكل الذي يحجب حقيقة صراع السلطة وإخضاع المغرب لنفوذ ولاة وقواد المشرق. فنعلم مع عبد الله العروي بأن مسألة الفتح كانت منذ البداية سياسية أكثر منها دينية: أي كيف سيحكم العرب المغرب وليس كيف سيعبد المغاربة خالقهم... ولا شك أن إسلام "البربر" في آخر المطاف لم يعد أن يكون اعترافا بسيادة الخليفة.
وقد ارتبطت أسطرة الأحداث بتعظيم شخصية القائد، وكان عقبة بن نافع هو الاسم الذي حظي بالنصيب الأوفر من ذلك، ككبير القواد الفاتحين، رغم أن تأكيد حملته على المغرب الأقصى يبقى دون سند، كما ذهب إلى ذلك عبد الله العروي الذي أكد أن حملة عقبة لم تتجاوز نواحي تلمسان ووهران. وقد يكون الهدف من هذا التقديس الذي أحيطت به شخصية عقبة في التاريخ الرسمي، والإشادة بأعماله الحقيقية وغير الحقيقية، هو تعظيمه والتغطية على الوقائع الميدانية كحملة الاسترقاق الجماعي التي قادتها جيوش الأمويين.
إضافة إلى الصورة التاريخية الرسمية التي اقترن بها اسم عقبة، يمكن أيضا إثارة اسم موسى بن نصير وطارق بن زياد. فباستثناء الخطبة الشهيرة التي اقترن بها اسم هذا الأخير أثناء فتح الأندلس، والتي تتضارب الآراء حولها خاصة أنه القائد الأمازيغي الذي تفيد بعض المصادر بأنه لم يكن يتقن العربية بتلك الدرجة، فإن مصير طارق ومكان تواجد قبره يبقى الحلقة المفقودة من هذه الرواية التي لا يخفى بعدها وارتباطها الوطيد بأهداف وخفايا الخلافة الأموية وصراعاتها الداخلية.
وامتدادا لنفس الخيار الإيديولوجي، تسعى الرواية الرسمية في تناولها لمختلف الأحداث التي ميزت تعاقب الدول والصراعات والأحداث، إلى الإيحاء بنوع من الاندماج المجتمعي والانتصار العارم والدائم للسطلة المركزية، والتقليل من شأن الوقائع والردود التي عرفتها المناطق المستعصية، ومنها حقيقة الصراع الكبير الذي طبع علاقة الدول والأنظمة المركزية والجماعات الوافدة مع سكان المناطق الممتدة على أنحاء البلاد، وأنماط تنظيمهم السياسي المحلي ووجودهم الاجتماعي.
فهذا التاريخ الذي يحدوه "مكر العقل الشمولي"، وبغضه الطرف عن وقائع الأزمة والصراع التي طبعت علاقة المراكز الحاكمة بالهوامش المقاومة أو المستعصية، فهو يسعى إلى تقديم صورة البلاد المندمجة والسلطة القوية التي تملك الحق وشرعية السيطرة والتنظيم وامتلاك الأرض والإنسان، وإخضاع الجميع لنفوذها الإداري والقضائي. ومن هذا المنظور، يسقط التاريخ الرسمي من حسابه ما يسميه صدقي أزايكو باللازمة العميقة المحركة لتاريخ المغرب وشمال إفريقيا منذ أن استقر بهما الإسلام، وهي تدافع الأحداث والوقائع، وتضارب الآراء والمواقف، وتصارع الجماعات والدول، وتنافس اللغات والثقافات والمؤسسات المختلفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق